قوله : ( التي تورون ) أي توقدونها من قولهم : أورى النار إذا قدحها وأوقدها ، والمعنى : أفرأيتم
النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها ، أي أوجدتموها من العدم ؟
وقوله هنا ( أأنتم أنشأتم شجرتها ) أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار ،
ومن أمثال العرب في كل شجر نار ، واستنجدالمرخ والعفار ، لأن المرخ والعفار
هما أكثر الشجر نصيباً في استخراج النار منهما ، يأخذون قضيباً من المرخ ويحكمون به عوداً من العفار فتخرج من بينهما النار .
وقوله : ( نحن جعلناها تذكرة ) أي تذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا
شدة حرارتها . نار الآخرة التي هي أشد منها حراً لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم : أن حرارة
نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة .
وقوله ( ومتاعاً للمقوين ) أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض ، وهو
الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد ، وهم المسافرون ، لأنهم ينتفعون بالنار
انتفاعاً عظيماً في الإستدفاء بها والإستضاءة وإصلاح الزاد .
وخص الله المسافرين ، لأن نفع المسافر بها أعطم من غيره ، ولعل السبب
في ذلك لأن الدنيا كلها دار سفرٍ ، والعبد من حين ولد فهو مسافرٌ إلى ربه ؛فهذه
النار جعلها الله متاعاً للمسافرين في هذه الدار وتذكرةً لهم بدار القرار .
لكن تلك المنافع للنار تجعلنا لانستهين بها فنشعلها ليلاً ونتركها لأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن ذلك فقال : ( لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) رواه البخاري .
وقال : ( إن هذه النار إنما هي عدوٌ لكم ، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ) رواه البخاري .
قال ابن حجر : ( قال القرطبي : [ في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها مايؤمن معه الإحتراق ، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوماً ، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفاً ولأدائها تاركاً ] ).
مع أنفاس الشتاء الباردة ، وهبوب الرياح النديِة الماطرة ، نتحلق حول مدفأةٍ ، نحتسي خلالها فنجاناً من القهوة الساخنة ،ولا بأس بكوبٍ من الشاي أو الزنجبيل لنشعر بالدفء .
في ليالي الشتاء ، الأمطار تهطل بغزارة ، والرعد بصوته القوي ، يقطع سكون الليل ، وينعكس على زجاج النافذة ، وميض لبرق خاطف ، تدثرت بغطاءي ، وهممت أن أنام ،ولكن جال في خاطري من ينامون في العراء ، بلا طعام وبلا كساء ، يفترشون الأرض ، ويأكلون أوراق الشجر ، لا يجد الفرد منهم كسرة خبزٍ ، ولا مذقة لبن ، ولا شربة ماء .
حالهم في فصل الشتاء يرثى له أتعلم لماذا؟
لأن البرد كالعدو الذي يريد أن يهجم عليهم ، فيستأصلهم من الأرض . وآخرون فقدوا من يعولهم ، فشعروا ببرود عام لا أم ولا أب يسأل عنهم ، يعتني بهم ، يكفكف دموعهم ، يحتضن آلامهم ، يحقق آمالهم .
هم أيتام بحاجةٍ إلى دفء مشاعرنا ، صدق محبتنا ، قربنا منهم . هؤلاء وهؤلاء الكُلُ بحاجةٍ إلى دفءٍ من نوعٍ آخر .
وقفة :
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية : ( إن الشتاء قد حضر فتأهبوا له ، فإن البرد عدوٌ سريعٌ دخوله ، بعيدٌ خروجه ) .