جرب أن يمر عليك يوم ، لاتتناول فيه وجبتي الغداء والعشاء ، لكن قد تكون أكلت فيما بين الوجبتين ولو تمراًً ، لقد جربت ذلك يوما وإن كان ليس بإرادتي ، فلم أستطع النوم من شدة الجوع ، فقلت : ألهذه الدرجة تكون سطوة الجوع على الإنسان ، فتشل حركته ، لايستطيع أن يتحرك ،أو ينام ، أو يقف ، أو حتى يفكر. فمابالك بإخوان لنا في العقيدة ، يتضورون جوعا ،بل يموتون من شدة الجوع ، ليس لديهم قوت يومهم ، بينما أنا وأنت نملك القوت كل يوم ولانبالي . ولتقرأ معي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، ووصفها لطعام آل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو شاء لأتته الدنيا راغمه ، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها : أنها كانت تقول : ( والله ياابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ، ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار ، قلت : ياخالة ، فما كان بعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار ، وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون لرسول الله من ألبانها فيسقينا ) متفق عليه . حسناً لن أدعك تموت جوعاً ، وكل مابدا لك ، لكن إن استطعت أن تدفع الجوع عن نفسك ، فحريٌ بك أن تساهم في دفعه عن غيرك . ومن العجيب أنني كنت أرى رجلاً ، يعطي عمال النظافة (الذين يكنسون الشوارع ) بعضا من فطوره ، وكل يوم فأستغرب وأقول مالذي يدفعه لفعل ذلك ؟ فعلمت أنه كان حريصا على دخول الجنة . قال صلى الله عليه وسلم : (ياأيُها النَاس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح
مجموعة كبيرة من العلماء الربانيين رحلوا عن هذه الدنيا لكن
أعمالهم باقية ، أصواتهم الندية بالقرآن تالية ، دعونا إلى كل هدىً
فكتبت لهم أُجُورهم تامةً وافية .
عَنْ اَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه اَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ” مَنْ دَعَا اِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الاَجْرِ مِثْلُ ِ أُجُور مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا اِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الاِثْمِ مِثْلُ اثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ اثَامِهِمْ شَيْئًا ” .رواه مسلم
قال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – :
( من دعا إلى هدى: يعني بينه للناس ودعاهم إليه ، مثل أن يبين للناس أن ركعتي الضحى سنة ، وأنه ينبغي للإنسان أن يصلي
ركعتين في الضحى ، ثم تبعه الناس وصاروا يصلون الضحى
، فإن له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ،
لأن فضل الله واسع .
أو قال للناس مثلاً اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً ، ولا تناموا
إلا على وتر إلا من طمع أن يقوم من آخر الليل فليجعل وتره في آخر الليل ، فتبعه ناس على ذلك فإن له مثل أجرهم ، يعني كلما
أوتر واحد هداه الله على يده فله مثل أجره ، وكذلك بقية الأعمال
الصالحة .
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لاينقص ذلك من آثامهم شيئاً ، أي إذا دعا إلى وزر وإلى مافيه الإثم ، مثل أن يدعو الناس إلى لهو أو باطل أو غناء أو ربا أو غير ذلك من المحارم ، فإن كل إنسان تأثر بدعوته فإنه يُكتب له مثل أوزارهم ،
لأنه دعا إلى الوزر والعياذ بالله .
واعلم أن الدعوة إلى الهدى والدعوة إلى الوزر تكون بالقول ؛ كما لو قال افعل كذا . افعل كذا ، وتكون بالفعل خصوصاً من الذي يُقتدى به من الناس ، فإنه إذا كان يُقتدى به ثم فعل شيئاً فكأنه دعا
الناس إلى فعله ، ولهذا يحتجون بفعله ويقولون فعل فلان كذا وهو جائز .
فالمهم أن من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من اتبعه ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل وزر من اتبعه .
وفي هذا دليل على أن المتسبب كالمباشر ؛ المتسبب للشيء كالمباشر له ، فهذا الذي دعا إلى الهدى تسبب فكان له مثل أجر من فعله ، والذي دعا إلى السوء أو إلى الوزر تسبب فكان عليه مثل وزر من اتبعه .
وقد أخذ العلماء الفقهاء رحمهم الله من ذلك قاعدة : بأن السبب كالمباشرة ، لكن إذا اجتمع سبب ومباشرة أحالوا الضمان على المُباشرة .، لأنها أمس بالإتلاف ) .
فإلى كل من دعا إلى هدىً بقول ٍ أو فعلٍ فكان له من الأجور مثل أجور من تبعه، هنيئاً لك .
ولكل من دعا إلى ضلالة فكان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه
قوله : ( التي تورون ) أي توقدونها من قولهم : أورى النار إذا قدحها وأوقدها ، والمعنى : أفرأيتم
النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها ، أي أوجدتموها من العدم ؟
وقوله هنا ( أأنتم أنشأتم شجرتها ) أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار ،
ومن أمثال العرب في كل شجر نار ، واستنجدالمرخ والعفار ، لأن المرخ والعفار
هما أكثر الشجر نصيباً في استخراج النار منهما ، يأخذون قضيباً من المرخ ويحكمون به عوداً من العفار فتخرج من بينهما النار .
وقوله : ( نحن جعلناها تذكرة ) أي تذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا
شدة حرارتها . نار الآخرة التي هي أشد منها حراً لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم : أن حرارة
نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة .
وقوله ( ومتاعاً للمقوين ) أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض ، وهو
الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد ، وهم المسافرون ، لأنهم ينتفعون بالنار
انتفاعاً عظيماً في الإستدفاء بها والإستضاءة وإصلاح الزاد .
وخص الله المسافرين ، لأن نفع المسافر بها أعطم من غيره ، ولعل السبب
في ذلك لأن الدنيا كلها دار سفرٍ ، والعبد من حين ولد فهو مسافرٌ إلى ربه ؛فهذه
النار جعلها الله متاعاً للمسافرين في هذه الدار وتذكرةً لهم بدار القرار .
لكن تلك المنافع للنار تجعلنا لانستهين بها فنشعلها ليلاً ونتركها لأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن ذلك فقال : ( لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) رواه البخاري .
وقال : ( إن هذه النار إنما هي عدوٌ لكم ، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ) رواه البخاري .
قال ابن حجر : ( قال القرطبي : [ في هذه الأحاديث أن الواحد إذا بات ببيت ليس فيه غيره وفيه نار فعليه أن يطفئها قبل نومه أو يفعل بها مايؤمن معه الإحتراق ، وكذا إن كان في البيت جماعة فإنه يتعين على بعضهم وأحقهم بذلك آخرهم نوماً ، فمن فرط في ذلك كان للسنة مخالفاً ولأدائها تاركاً ] ).
مع أنفاس الشتاء الباردة ، وهبوب الرياح النديِة الماطرة ، نتحلق حول مدفأةٍ ، نحتسي خلالها فنجاناً من القهوة الساخنة ،ولا بأس بكوبٍ من الشاي أو الزنجبيل لنشعر بالدفء .
في ليالي الشتاء ، الأمطار تهطل بغزارة ، والرعد بصوته القوي ، يقطع سكون الليل ، وينعكس على زجاج النافذة ، وميض لبرق خاطف ، تدثرت بغطاءي ، وهممت أن أنام ،ولكن جال في خاطري من ينامون في العراء ، بلا طعام وبلا كساء ، يفترشون الأرض ، ويأكلون أوراق الشجر ، لا يجد الفرد منهم كسرة خبزٍ ، ولا مذقة لبن ، ولا شربة ماء .
حالهم في فصل الشتاء يرثى له أتعلم لماذا؟
لأن البرد كالعدو الذي يريد أن يهجم عليهم ، فيستأصلهم من الأرض . وآخرون فقدوا من يعولهم ، فشعروا ببرود عام لا أم ولا أب يسأل عنهم ، يعتني بهم ، يكفكف دموعهم ، يحتضن آلامهم ، يحقق آمالهم .
هم أيتام بحاجةٍ إلى دفء مشاعرنا ، صدق محبتنا ، قربنا منهم . هؤلاء وهؤلاء الكُلُ بحاجةٍ إلى دفءٍ من نوعٍ آخر .
وقفة :
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية : ( إن الشتاء قد حضر فتأهبوا له ، فإن البرد عدوٌ سريعٌ دخوله ، بعيدٌ خروجه ) .