لا أدري كيف أبدأ رواية هذه القصة المؤلمة المليئة بالمواقف والعبر، إنها قصة واقعية موثقة الأحداث بأدق تفاصيلها، ليس فيها إضافة من نسج الخيال مما يجد بعض الكتاب الحاجة إليه لإضفاء شيء من الحياة على أحداث رواياتهم أو لإستثارة مشاعر قرائهم.
فكرت كثيراً كيف أبدأ رواية هذه القصة، وكلما أعدت شريط الأحداث الأليمة عادت بي إلى نقطة وموقف، ثم لأتوقف عند ذلك الموقف في كل مرة عاجزاً عن التعبير فأدركت عندها أنه لا بد سيكون البداية لسرد هذه القصة.
اليوم هو الخميس 25 من شهر رمضان المبارك – الموافق 25 من شهر سبتمبر لعام 2008 م. كنت في عيادتي عندما تلقيت مكالمة من رئيس الأطباء يعلمني أن مسرّة البالغة من العمر سبعة أعوام تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن تواجدي مع أهلها هام جداً أثناء هذه اللحظات العصيبة فاعتذرت من باقي مرضاي في العيادة وأسرعت للعناية المركزة لأرى المشهد الذي مازال عالقاً في ذهني كلما أعدت الشريط لذلك اليوم أعود وأقف هناك إجلالاً لما رأيت. حقاً صدق من قال “إن هذا الشرع لا يحيا إلا أن يختلط بلحم ودم ويمشي على الأرض”، وقد رأيت ذلك اليوم كيف تتجلى المعاني العظيمة المجردة مثل تعلق القلب بالله والصبر على بلائه والرضا بقضائه، كيف تتجلى هذه المعاني العظيمة في بشر حي فتحيا به، وكيف يصبح المؤمن بها قرآناً يدب على الأرض … توقفت من على بعد أنظر لأرى وأعتبر بذلك الوالد الذي فقد ابنه الأول ميسرة البالغ من العمر ثلاث سنوات منذ سويعات قليلة وها هو الآن يودع إبنته مسرّة.
إن أعظم كتب الوعظ وأبلغ وعاظ الأرض ليعجزون أن يوصلوا هذه المعاني التي كان يخطها والد ميسرة ومسرّة في الصحف العلوية في ذلك المكان وذلك الزمان والله يسمع ويرى ويباهي ملائكته بعبده وهي تنظر إليه “قبضتم فلذات كبد عبدي فماذا قال عبدي؟“.
رأيت كيف يجسِّدُ إنسان واحد في موقف ما ذلك المعنى الذي يصحح الله به ألف معنى، وكيف يكون المؤمن الواحد عندئذ هو فن الحياة كلها بل أستاذها ومعلمها بِصَمْتِه قبل نُطِقه وسُكونه قبل حركته، لحن سماوي يخرج من المؤمن دون قصد أو تصنع أو تمثيل في وقت تنصهر فيه معادن الرجال ليخرج منها جوهرها ولبّها وأصلها ويتطاير كل ما دون ذلك مما يخالطها من تراب الأرض وقبضة الطين وزور الدنيا.
وقفت بعيداً أنظر إلى ذلك الأب الذي فقد إبنه ميسرة قبل ساعات وهو الآن يودع ابنته مسرّة، بل قل وقفت أنظر إلى تلك المدرسة، وقد تخيلته في تلك اللحظة وهو يمسك بستار غرفة العناية المركزة إلا كأنما يمسك بأستار الكعبة تارة ينظر إلى إبنته كأنه يناديها، وتارة ينظر للسماء كـأنما يناجي ربه، وتارة أخرى ينظر إلى الأرض كمن يذكر نفسه أننا منها خُلقنا وإليها نعود.
عجيب أمر الإنسان … بكل ضعفه يصبح مدرسة الكون عندما تعمل النفحة الربانية فيه عملها، وتقود في مثل هذا الموقف زمام أمره.
وضعت نفسي مكانه وسألتها يانفسُ ماكنتِ فاعلة في موقف مثل هذا؟ … أكنتِ تجزعين، أو كنتِ تصبرين؟ … لا كتب الله علينا مثل هذا الإبتلاء … اللهم إن عافيتك أوسع لنا …
ثم قلت في نفسي “إن لهذا الرجل مع الله لحالاً” فمثل هذه المواقف تشهد بالإيمان بما يعجز كل أهل الأرض أن يشهدوا به لأحد منهم ولو اجتمعوا“.
انتقلت مسرّة إلى ربها وبقي والد مسرّة وميسرة، بقي المعنى الذي أحيا الله به في قلوب كل من رأوه ذلك اليوم والأيام التي تليه من الفضائل والمعاني ما يعجز القلم أن يعبر عنه.
وذهب والد ميسرة ومسرّة في إيمان ليبلَّغ زوجته بفقدان نصف أبنائهما في هذه السويعات القليلة ليكون أول ما تتفوه به الأم دون جزع ولا عويل ولا صراخ وإنما هو الإيمان بقضاء الله وقدره وحكمته ورحمته “لايأتي من الله إلا خير“.
قذف الله في قلبي ذلك اليوم أن دوري أكبر وأبعد من مجرد دور طبيب أو رئيس تنفيذي لمستشفى، وأن هناك واجباً قد أوجبه الله علي سأشرك فيه المجتمع بأسره بعرضي هذه القصة عليهم وبسردي تفاصيلها الدقيقة لهم، وقررت أن أغوص في أعماق القضية وأعيش مع والد ميسرة ومسرّة قصته كلّها منذ اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وقد دخلا الدنيا إلى اللحظة التي حملهما فيها بين يديه وأدخلهما القبر وتركهما هناك، ووافق الأب وجلس يسرد القصة بتفاصيلها، وعشت معه ساعات لم أر فيها أو أسمع قصة والد فَقَدَ ولديه بل لأكون أنا هذا الوالد الذي فقد ابنه وابنته في ذلك اليوم.
بدأت أعيش أحداث القصة … فحاله حالي وألمه ألمي ولسانه قلمي، ها أنا ذا أكتب قصة رحيل مسرّة وميسرة كما هي بتفاصيلها الدقيقة بقلمي وكأنني أنا الذي فقدتهما تجسيداً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم والله لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فإليكم قصتي …
((لا أدري من أين أبدأ … هل أبدأ من أول صرخة من فمها أطلقتها … أو أول لحظة وقعت عيناي عليها … أو أول يوم حملتها بين يدي … أو أول ابتسامة رَسَمَتهَا على خديها … أو أول خطوة مشتها تحت ناظري … أو أول يوم صحبتها لمدرستها … أو أول كلمة قرأتها على مسمعى.
ولدت مسرّة ابنتي الثانية، وسبحان الله كيف ولدت مسرّة، كانت بحق مسرّة لنا منذ أول يوم دخلت فيه الدنيا، فقد وصلنا إلى المستشفى لإجراء الفحص العادي ولم نتوقع الولادة، فتركت زوجتي مع والدتي ورجعت للعمل وطلبت منهم الإتصال في حالة الإنتهاء من الفحوصات وكانت الساعة الثانية عشرة ظهراً، وصليت الظهر، ووجدت مكالمة على جوالي فاتصلت فقيل لي ولدت مسرّة فعدت سريعاً للمستشفى لأجد طفلة سبحان الذي خلق فسوى فقد آتاها الله جمالاً، وقد نَزَعَتْ إلى أخوالها بعيونها الزرقاء وشعرها الأشقر بخلاف أختها الكبرى فريال التي آتاها الله جمالاً من نوع آخر، وأسمينا هذه الطفلة الجديدة “مسرّة” لما أدخلت في قلوبنا من الغبطة والسرور منذ يومها الأول. تحدثت مسرّة في سن مبكر جداً وما زلنا نحتفظ ببعض تسجيلات الفيديو لها وهي في شهرها السابع تنطق بكلمات واضحة وتضحك ضحكات عالية كأنها طفلة كبيرة، وعندما أتمت مسرّة من العمر سنة بدأت تتحدث بطلاقة ما عهدناها لدى الأطفال وكانت دائماً فرحة مسرورة حتى أنّ جدتها كانت تقول سبحان الله الذي خلق هذه الطفلة لم أرها قط إلا مسرورة وما رأيتها يوماً حزينة.
وكانت مسرّة متعلقة تعلقاً كبيراً بأختها الكبرى فريال التي تكبرها بأربع سنوات حتى سُمَّت فريال بأمها الثانية وكانت تنام دائماً معها.
عندما أسترجع الذكريات الجميلة أتذكر كيف جمعت مسرّة من المتناقضات ما يزيد من حبنا لها، فبالرغم من ذكائها الحاد واستغراب الناس لإدركها لخفايا الأمور وما وراء الأشياء إلا أنها كانت لينة العريكة سهلة الإقناع رغبة منها ألا تستعرض ذكاءها وأن لا تسبب إزعاجاً لنا، وكان لها منطق فطري يدهشنا في كثير من الأحيان، ومثال ذلك عندما كانت في الثانية من عمرها وحضرت حفلة مدرسة أختها الكبرى فريال، وقد عُرِضَت على الأطفال تمثيلية قصة الراعي الذي كان يملك غنمات وكان الذئب يأخذ كل يوم منه غنمة حتى نصب له الراعي فخاً وأمسك به وأخذ يضربه فقامت مسرّة في وسط القاعة صارخة “لا تضربوه .. لا تضربوه”، فأوقف عرض المسرحية واندهش الجميع من تصرفها، واقتربت منها المدرّسة وقالت لها “لا تخافي حبيبتي أليس هذا هو الذئب الذي يأكل غنم الراعي؟” فأجابتها “نعم”، ثم سألت مسرّة المدرّسة على مرأى من الناس “وهل يأكل الذئب الدجاج كذلك؟” فأجابت المدرسة “نعم” فقالت مسرّة “وأنتِ مش تأكلي الدجاج كمان” فبهتت المعلمة وضحك جميع من في القاعة من تعليقها الذكي الفطن، وما هذا إلا موقف من عشرات المواقف التي تنم عن فطنة وذكاء حاد.
كانت مسرّة مليئة بالحياة والنشاط لا تكاد تستقر في مكان واحد، وعندما أسترجع كل ذلك النشاط والحياة يبدو لي كأنها كانت تعلم أن أيامها على هذه الأرض معدودة فكان لها أن تعطي كل لحظة من حياتها حقها حتى لا تضيع لحظة من حياتها فيها شيء من الحياة ولم تخرجه منها تلك الصغيرة لتحياها وتحيا بها وتُبقي لنا ذكريات مليئة بالنشاط والأخذ والعطاء، فسبحان الذي جمع في هذه الطفلة المتناقضات العجيبة، فبالرغم من نشاطها غير العادي وروحها الإستكشافية وحبها للمغامرة والدعابة والضحك أو ما نسميه في العامية “بالشيطنة” في البيت، إلا أنها كانت نموذجاً في الإنضباط والسيطرة على تلك الروح المفعمة بالحياة، فكانت تذهلنا بمدى سيطرتها على نفسها وتحكمها في تصرفاتها، وكانت تغار من أختها الكبرى فريال -تدلل بإسم فراولة- كيف تمسك فريال بالقرآن وتقرأ فيه ومسرّة لا تقرأ بعد، وتأتي فتحمله مثل أختها فتناديها أمها أن لا تلعبي بالقرآن فكانت هذه القضية تسبب لها عقدة، وحفظت معظم السور الصغار من أختها الكبرى وهي تحفظها على مسمع منها وما كانت تقرأ آنذاك، واعتبرت مسرّة إنضمامها لأختها الكبرى في نفس المدرسة هو أكبر مكافأة لها.
كيف أنسى طفلتي الصغيرة مسرّة؟ كيف أنها قبل أول يوم دراسي لها بشهر كامل تستيقظ كل صباح باكراً وتعلق شنطتها في ظهرها وتمسك المصحف بيدها اليمنى وتقول لها أمها أتركي المصحف يا مسرّة .. وتجيبها “لا أنا خلاص زي فراولة ما تاخدوا مني المصحف أبداً“.
وبالرغم من قدرتي المادية الجيدة إلا أن زوجتي رفضت أن تكون معنا خادمة في البيت حرصاً منها أن تعتني بأبنائها بنفسها تسهر عليهم وترضعهم حتى ينفطموا وإن طالت الفترة إلى عامين أو يزيد، وأنا في المقابل كنت لهم سائقاً وأرعى مصالحهم وطلباتهم بنفسي، فكنّا بذلك أسرة مترابطة متلاحمة يسعى كل منا ليخدم الآخر، وأبناؤنا لا يفارقوننا، ولا أذكر أننا خرجنا يوماً وتركناهم لغيرنا يعتنون بهم، وكانت كل تقارير مسرّة في مدرستها تعكس مثالياتها وانضباطها واجتهادها وذكاءها، وإن كان فيها شيء عجبت له مدرساتها وهي إلتفاف زميلاتها دائماً حولها، وكانت المدرّسة تعجب لذلك فسَأَلَتها يوماً عن سبب ذلك فكانت إجابة مسرّة تلقائية فطرية “أنا أحبهم وهم يحبونني”. وهل لغير الحب الصادق تنجذب الأرواح وتُمْتَلك، وقد أتي الله بحق صغيرتي محبة في قلوب خلقه إلى الحد الذي جعل أمها تخاف عليها. وأنهت مسرّة عامها الأول وكانت نهاية مشرفة حيث اتصلت بي مديرة المدرسة وسألتني “هل عند مسرّة مُحَّفظة للقرآن في البيت” فأجبتها “لا، هي تحفظ فقط في مدرستها” .. فقالت: “أنا أستغرب من قرآتها فإنها تقرأ بتجويد لا بد أنها درست على يد أحد” … أي نعم والحمد لله أنا كنت مُحَفظاً للقرآن ولكنني لم أُحِّفظَها ولم أُقَرِّأها، فاستئذنتني المدرّسة أن تأخذها تقرأ في الفصول الأخرى لتشجيع باقي الطلبة، فترددت واستشرت أمها ثم توكلنا على الله، واتصلت بي المدرسة مرة ثانية تستأذنني أن تقرأ مسرّة في حفلة للطلبة الكبار فأجبناها أن مسرّة ما زالت طفلة صغيرة وهذه مدرسة تحفيظ فيها كثير من الفتيات الحافظات، ولكن الله وهب مسرّة صوتاً جميلاً وتلاوة مميزة، وكانت تتقمص أصوات كبار القراء كالحصري والمنشاوي بل وتتجهم وترسم على وجهها الجدية والوقار وكأنها شابة لا طفلة، وكانت مسرّة مولعة بالقرآن ومتلهفة أن تحفظ أكبر قدر ممكن حتى تلحق بأختها الكبرى فريال، حتى أنها أصرّت في السنة الثانية أن تسبق مدرستها ووعدتها أن أحضر لها محفظة بناء على إلحاحها.
وفي يوم سألتُ أمها ما سبب استعجال مسرّة في حفظ القرآن فلم تعرف السبب، فطلبت من أمها أن تستفسر منها وتستدرجها في الكلام لتعرف منها ما تريد من وراء هذا الإستعجال، هل هي تنتظر منا مكافأة أو هدية أو غير ذلك؟ .. وأي إجابة تلك التي أجابتنا بها مسرّة فقد قالت لنا “اللي يحفظ القرآن ربنا يلبسه تاج الملك ويلبس أمه وأبوه، ولو أختي فريال حفظت قبلي حتلبسكم التاج قبلي وأنا ما أبغى .. أنا أبغى التاج حقي هو الأول تلبسوه“.
والله ما سررت في الدنيا قدر ما سررت بتلك الكلمات، واستمرت مسرّة تجلب لنا السرور بشتى أشكاله وصوره وألوانه، فقد حباها الله ذكاءً حاداً وسرعة في الحفظ عجيبة فكانت تحفظ صفحتين في اليوم الواحد حفظاً كاملاً ليس فيه خطأ واحد، وكان لها تفسيرها الفطري للآيات .. تلك الفطرة الحيّة التي هي خير ما يتجاوب مع كلام فاطر السماوات والأرض دون تصنع أو تكلف أو تطويع للآيات أو نظر عميق فيها بتلك الأدوات التي يحتاجها العلماء لفحص معاني الآيات، ففي يوم جاءتني أختها فريال وقالت لي: (يعني أيش “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها” يعني ربنا جاء معاهم في الغرفة سمعهم) فأجابتها مسرّة وهي مستلقية: “يعني أفهمي يا فراولة إن الله يسمع كل شيء حتى لو كنتي تحت السرير يسمعك”، وكأنها بقولها هذا قد فهمت قوله سبحانه وتعالى “يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير”، أو قوله سبحانه وتعالى “وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين“.
كنا في يوم نجلس ونشاهد التلفاز فجاء الحديث “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله” وتحدثنا عن أناس يطردهم الله من رحمته قالت: “أيوه الملاعين” قلت لها “الملاعين مين؟… الشياطين؟” قالت “لا” قلت لها “يعني إيش” قالت “دحين أقول لك”، وقعدت تقلب في التلفزيون ولكن لم تجد ضالتها ونَسيتُ أنا الموضوع وبعد نصف ساعة أو يزيد وجدتها تصرخ علي فنادتني فأتيتها وقلت لها خير وجدتها تنظر إلى قناة وأتت بحديث “لعن الله الراشي والمرتشي” قالت لي “هدول في منهم ملاعين … هم دول الملاعين زي كده عرفت يا بابا مين هم الملاعين“، وأنا أقف بين يدي طفلتي في ذهول واندهاش، هل كانت طفلتي حقاً تعلم معنى الراشي والمرتشي؟!.. أو أن الذي أنطقها هو فاطرها، وهل يجري الله الحق إلا على ألسنة مثل هذه القلوب الطاهرة، وهذا الفطرة السليمة التي لم تنتكس بعد.
مازالت كلمات صغيرتي وضحكاتها تدوي في أذني … وما ذكرت لكم هنا إلا غيض من فيض، وهذا الذي يجعلني أسأل نفسي كيف أوزع صبري؟ أأوزعه على كلماتها وضحكاتها التي ما زلت أسمع صداها في أرجاء بيتي؟ .. أو أوزع صبري على ذكرى كل حركة قامت بها في حياتها محفورة في عقلي وقلبي؟ .. أو كل مكان كان له مع طفلتي لحظة حياة … يُخرج لي به طفلتي من قبرها فأعود أدفنها، فكنت لا كالذي دَفَن روحاً واحدة .. بل كالذي يدفن أرواحاً وأرواحاً في كل لحظة من حياته .. وإنني أموت بموتها كل يوم على قدر ما يحيي المكان والزمان من ذكراها.
وكان من نقاط ضعف صغيرتي مسرّة أنها كانت لا تقدر أن ترى أحداً مكدراً متألماً حزيناً، وكنا إذا أردنا منها شيئاً هو خير لها لا نجد أنجع طريقة من أن نُظهر لها حزننا ودموعنا فتفعل ما نطلبه منها حتى لا نحزن وتقول لنا “أهم شيء إنكم ما تزعلوا”. وتمر الأيام وجاء 4/4/1427 هـ، ومسرّة في السنة الثانية وقد أكرمنا الله بميسرة .. وُلِدَ ميسرة وقد كان كالتوأم لأخته مسرّة وإن كان فارق السن بينهما أربع سنوات.
حقاً قلّما تجد إثنين يتماثلان في الطباع والتصرفات كتماثل مسرّة وميسرة، حتى طريقة حَبْيَهُما على الأرض تختلف عن أختهما فريال وأخوهما بلال الذي لم يكن قد وُلِدَ بعد فكانا يحبيان بإستعمال يد واحدة فقط هي اليد اليمنى، وكان هذا ليس بطبيعي عند الأطفال، وكانا ملتصقان كالتوأم، تشابه عجيب في الصفات والحركات والطباع، وكان ميسرة دائماً يستعين بمسرّة دون غيرها في البيت في كل صغيرة كبيرة، وكان ميسرة ينام في السرير مع أمه، ثم انتقل إلى غرفة إخوته، وكان يلعب مع أخته طوال يومه ولكن يقوم في منتصف الليل ويلجأ إلى أخته الكبرى فريال وينام معها إلا في ليلة واحدة ولأول مرة في حياته ذهب ونام في حضن أخته مسرّة، وكانت تلك هي الليلة الأخيرة في حياة ميسرة ومسرّة.
وكان لميسرة كذلك روح عجيبة، إبتسامة عريضة لا تغادره، مليء بالحياة يدندن طول وقته بألحانه الخاصة وينشد بكلمات يختلقها وينمقها، إنها طاقة عجيبة ونفس حلوة لم أره يوماً يستيقظ من نومه إلا وإبتسامته العريضة مرسومة على وجهه حتى وهو يحاول فتح عينيه عند الإستيقاظ، وكان ميسرة كأخته مسرّة يحب العطور، أذكر أنني دخلت يوماً ووجدت البيت مفعماً بالعطر ووجدت مسرّة وكانت آنذاك خمسة أعوام وقد أفرغت عودة كانت لي أثيرة وقبل أن أنطق قالت لي “أنت مو قلت إحنا كلنا مع بعض في كل شي” فَسَكَتُّ، وكان هو مثلها يتسلق على التسريحة ليشم رائحة العطور، وخِفْتُ عليهما من إستعمال عطر الكبار فأحضرت لهما عطور خاصة بالأطفال، وكان ميسرة يحب العطر كثيراً ويسميه “أناه” وكان العطر عنده قيم وأثير وعنده بالدنيا كلها، وكبرت مسرّة وكبر ميسرة تحت سمعي وبصري، وكانت مسرّة تغار من ميسرة وهو معي، واتضح لي أنها لم تغر من حبي له، وإنما غارت عليه مني فهي تريده ان يكون معها طوال الوقت … إنها غِيرَة لم نسمع عنها من قبل، وكانت ضحكة ميسرة تملأ البيت كلّه وكان عندما يذهب للنوم نُسرع للنوم لأن البيت يصبح هادئاً هدوءً موحشاً دون غنائه ودندنته وقهقهته وروحه المرحة العجيبة.
كيف بالله عليكم أوزع صبري؟!.. وعلى ماذا أوزع صبري؟!. .
طوال شهر شعبان وميسرة ومسرّة يهيئون أنفسهم للعيد الذي لم يروه .. فكل يوم تفرش مسرّة ملابس العيد وتخطط لأيام العيد متى تلبس هذا ومع ماذا؟!.. وميسرة وهو لم يبلغ الثالثة بعد لا يستطيع الوصول إلى ملابسه إلا الملابس الداخلية فيخرجها كذلك ويفرشها مثل أخته ويسميها “الجديدة”، وظلّوا طوال شهر كامل يخرجون الملابس ويحلمون بأيام العيد ونحن نعيش معهم أحلامهم ونشاركهم السعادة والغبطة والبهجة والسرور. وكان ميسرة يصلي معنا وأداعبه وأقول له “ياشيخ روح أنت ما أنت حتى متوضي وقبلتك هي التلفزيون”، ولكنه كان لا يردّ علي ويرسم على وجهه تعابير كالتي ترسمها مسرّة كلها جدية مثل تعابير الكبار وكأنه يقول لي “أنا دحين في الصلاة لا تزعجني“، ويمثل أنه مندمج في الصلاة ويرفع يده الصغيرة التي كنت أدعو الله بها في أحلك الظروف وأقول يا رب إشفع لي بهذه اليد الصغيرة التي ارتفعت إليك، وكان تماماً كأخته مسرّة كلما ارتكب خطأ فمثلاً حين يسمعنا نصرخ ونقول “من كسر هذا؟” وكان هو الفاعل وخشي العقاب جرى وكبر ودخل الصلاة بأي قبلة كانت ليكسب وقتاً حتى نهدأ من غضبنا وننتظر حتى ينتهي من الصلاة، وأحياناً كانت تطول هذه الصلاة .. سبحان الله كان رمضان هذا مليئاً بالبهجة والسرور والسعادة .. كنا فرحين بكل شيء مهما صغر.
فريال إبنتي الكبرى التي حماها الله لنا .. وهي ابنتي البكر ودرة البيت تساعد أمها ومعهم مسرّة، وكنا نهيء للإنتقال لبيتنا الجديد الذي أخرنا الإنتقال إليه إلى بعد رمضان حتى لا يلهينا عن إغتنام شهر رمضان والتركيز في العبادة، فكنا نذهب قبل رمضان إلى بيتنا الجديد كل أسبوع وقد اختار كل من أبنائي غرفته وألوانها والرسومات التي فيها حتى شكل المسبح اختاروه هم وصمّم على أساسه، جناح منفصل لفريال ومسرّة بغرفتين وصالة وحمام، وكذلك الحال لميسرة وبلال، وكانت فريال ومسرّة تضحكان على ميسرة كيف يكون له غرفة خاصة ويقولون وهم ضاحكون “لو وُضع في الحمام ما يقول شيء”، وأجيب سيكبر قريباً إن شاء الله ويتغير الحال … والحمد لله على كل حال.
قبل وفاة مسرّة بأشهر عبرت لي زوجتي عن خوفها على مسرّة حيث أنها أصبحت تحفظ بسرعة عجيبة صفحتين في اليوم أو يزيد وتجلس إلى أمها وتحدثها بلغة ليست بلغة عمرها فتقول لها “هذه السورة مرّة عاجباني .. هذه الآية مرة حلوة”، وتكون النتيجة تفاعل عجيب بين مسرّة مع القرآن وتُنْهِي في اليوم الواحد صفحتين ونصف بكل سهوله ويسر، وجاء شهر رمضان .. آخر رمضان لمسرّة وميسرة، وقد وَعَدْتُ ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات والحافظة من القرآن تسعة أجزاء أنها إذا حفظت جزءاً جديداً من القرآن فلها جائزة قيمة، ووعدت مسرّة أن لها مثلها إذا حفظت نصف جزء من القرآن على أن ينتهيا من هذا الحفظ قبل الخامس والعشرين من رمضان حيث أن المُحفّظة ستسافر ولابد أن تُسمّع لهما قبل سفرها، وبعد ساعتين وجدنا مسرّة حزينة “مبوزة“، وسألناها لماذا أنت حزينة فأجابت “ليش تقول لفريال تحفظ جزء وتقول لي أنا أحفظ نصف جزء”، فأجبناها “أنتِ أصغر وإذا أردتي أن تحفظي أكثر من النصف فاحفظي”، قالت “أيوه وأسبقها أنا أحفظ قبلها”، ووعدناها بجائزة إن هي فعلت، وجاء اليوم الموعود يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان وأنا بين التراويح والتهجد في الحرم رأيت مكالمة من البيت فاتصلت وأجابتني ابنتي مسرّة وصوتها كالعادة فرح وإن كان أكثر من المعتاد وتقول كلام غير مجمّع لشدة فرحها وسرورها “أيوه أنا … تاج … هدية … جائزة … خذ ماما”، قالت لي زوجتي “يا سيدي مبسوطة لأنها دوبها الساعة الواحدة وانتهت من الجزء الجديد وسورة إضافية فوقها وهي الآن سابقة المدرسة بجزئين تقريباً” وأمها تضحك وتقول لي “هي التي طالبت المحفّظة بالجلوس عنوة وقالت ما تخرجي قبل ما أَسمِّع كل اللي حفظته معاكي” وجرت على أمها في المطبخ وقالت لها “إقرأي علي الفاتحة” – نعم – طلب غريب عجيب يصدر من طفلة لأمها، وتعجب الأم لطلب ابنتها ولكن لله في خلقه شؤون وله معهم حال لا يدركه ولا يراه إلا أولو الأبصار، وكانت سعيدة سعادة عظيمة بانتهائها من تسميع جزء كامل وسورة فوقها دون خطأ واحد فقالت لها الأم “سيحضر لك بابا ما طلبت من بلاي ستيشن ومطالبك الأخرى”، وبدأت تخطط الطفلة مع أمها أين تسافر وتذهب للفسحة وماذا تشتري من هدايا للعيد والمكافآت وجهاز الكمبيوتر وتشاتينج على الإنترنت وغيره مما يتطلع له أطفال اليوم، وإن كانت مسرّة غير كل هؤلاء الأطفال في أن جائزتها الكبرى في كلمة ما زالت ترددها وهي “التاج“.
نعم لقد كان جُلّ همها أن تلبس التاج بحفظها للقرآن وأن تُلبس أباها وأمها هذا التاج يوم القيامة قبل أختها فريال.
بعد إنتهاء صلاة التهجد عدت إلى البيت ووصلت الساعة الرابعة والنصف، وككل يوم يكون الأبناء نائمين فأتسحر أنا وزوجتي، ولكن اليوم كان مختلفاً عن باقي الأيام فميسرة ما زال مستيقظاً ولا يريد النوم ونشيط ويلبس البيجامة التي يسميها “النامة”، وجاءني وتعلّق بي بطريقة غريبة -غريب أمر ميسرة ومسرّة- كأن ميسرة كان يعلم أن هذه آخر ليلة سيقضيها معي ومع والدته فأراد أن يأخذ منها أكثر ما يستطيع ويعطي فيها والديه آخر سويعات له على وجه الأرض، فتسحّر معنا وبقي للفجر ثم ذهب للنوم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يجري فيها ميسرة إلى أخته مسرّة وينام في حضنها، وتصف الأم بغرابة كيف نام في حضنها ووضع رأسه على صدرها ورجله على رجلها وأخذ يدندن كعادته وكأنه كان يعلم أنهما سينتقلان عما قريب سوياً إلى مكان واحد فبدأت رحلتهما سوياً في تلك الليلة، وجاءت الساعة الحادية عشرة صباحاً ووجدت ابنتي فريال البالغة من العمر عشر سنوات تقف على رأسي وتوقظني وهي تتكلم بصعوبة وتقول “أنا وماما وميسرة تعبانين”، فخرجت من الغرفة ولقيت زوجتي وأطفالي الأربعة على الأرض، ميسرة مطروح على الأرض وجهه شاحب وشفائفه زرقاء وزوجتي تمسك ببطنها وكلهمم يتقيأون، وفريال تترنح وتكاد تسقط من طولها وأنا في ذهول لِمَ لَمْ توقظوني من قبل؟!.. وعلمت أن الأمر حدث بسرعة فائقة وفي لحظات لم يعد لديهم قدرة على الحركة وكأنّمَا أصابهم الشلل، وكانت الحال كذلك بمسرّة وهي مطروحة في الصالة، فقلت في نفسي ليس هناك وقت، وهل الإسعاف سيأتي بسرعة؟! .. فحملت الإثنين الصغار وأمهم تتكئ علي وناديت إحدى أخواتي وهي طبيبة إستشارية أطفال. لا أدري كيف وصلنا إلى المستشفى؟! وصلنا الطوارئ وكل الذي يدور في خلدي هو تسمم وأقصى ما سيكون هو غسيل للمعدة، وكان ميسرة يتكلم وما زال في وعيه وإن كان مرتخي الأعصاب، وكان يصرخ ويبكي وما زال فيه قوة، وبدأ فريق الأطباء والتمريض في العمل وبدؤوا في وضع إبرة المحلول .. وفجأة ومن وضع النائم المتعب المرتخي العضلات قفز على طرف السرير ونظر إلى الباب كأنه رأى شيئاً أزعجه أو أن شخصاً دخل علينا فظننت أن أمه دخلت علينا، فنظرت بسرعة فلم أر أحداً دخل وأعدت نظري إليه فإذا بأعضائه كلها ترتخي فجأة وفي ثوان رأيت الفريق الطبي يحاول إنعاش قلب إبني بلا فائدة حتى أن الأطباء أنفسهم كانوا في ذهول لسرعة ما حدث، وعلمت بعد ذلك أن الأطباء قضوا وقتاً طويلاً في محاولة إنعاش القلب لإبني دون فائدة، ولكن الوقت مرّ بالنسبة لي كأنه دقائق وثوان، ولم تنزل عيني عن الشاشة التي فيها رسم دقات القلب لعل الحياة تدبّ مرة أخرى في إبني ميسرة .. كنت أبحث عن معجزة تنزل من السماء .. لم أكن اتصور أن هذا الوجه البريء يسكت عن الكلام، لم أكن أتصور في يوم من الأيام أنني سأقف مثل هذا الموقف .. لم أكن أتصور أن هذا الوجه البريء سيغيب عني وأنه سيسكت عن الكلام للأبد .. يارب .. يارب .. يارب. تمنيت أن أستطيع فعل شيء .. كل الذي كان في حيلتي هو الدعاء ومسح آثار الدم التي تخرج من أنفه وفمه وكنت أقول في نفسي دعها تخرج قد تكون هذه آثار حياة تعود.
عجيب أمر الإنسان .. كيف تختلف عنده المعايير وتنقلب الموازين بتغير الأحوال، والله إني كنت سعيداً في كل مرة يُصعقُ فيها قلب إبني الصغير بالكهرباء ويهتز كل جسده ويعود القلب يرتعش أمامي على الشاشة لأن ذلك يعني شيئاً واحداً أن هناك أمل .. أي صورة من صور الجنون هذه أن يتمنى والدٌ أن يُصعَقَ قلب ابنه بالكهرباء، ولكنها حال أب لا يريد أن يفقد إبنه، وبعد فترة من الزمن فقدت إدراكي بالزمن، ورأيت الدموع تنهمر في عيني الطبيب الذي ينعش قلب ميسرة فعلمت أن كل شيء قد إنتهى. لم أكن أتصور في حياتي أن أباً عاقلاً يقبل أن يشق صدر إبنه أو أن يفتح في رأسه فتحه ولكن شدة خوفي على فقدانه للأبد جعلني أتمنّى في تلك اللحظة أن يشقوا صدر إبني لأن ذلك كان يعني بالنسبة لي أنه ما زال هناك أمل أن يعود لي إبني ميسرة فلم أكن مهيئاً لوداعه، وفي لحظة نظرت فوجدته مرتخي الجسد بارداً وأنا أسأل نفسي أين ذلك الوجه الأبيض الأشقر الجميل؟!.. أهكذا ينتهي كل شيء في دقائق؟!.. كان يتكلم قبل ساعة!!.. كان يلعب معي البارحة!!.. لم يكن عند أحد إجابة عن الذي حدث؟! وكيف حدث؟!..
وانتهى كل شيء وغاب ميسرة عن الدنيا وودّعها .. علمت في تلك اللحظة أن باقي أفراد أسرتي في العناية المركزة، وتمنّيت أن آخذ ميسرة معي إلى هناك، يعلم الله أن تركي له في غرفة الطوارئ كان أشق وأصعب علي من أن أموت وأحيا ألف مرة وأُقَطَّع ويُفعل بي أي شيء، ولكني مضطر أن أترك طفلي الصغير ميسرة فباقي أسرتي كلهم الأربع في العناية المركزة لا أدري بحالهم.
كان علي أن أتماسك وأن لا أُبدي حزناً وأن أقف بجوار كلٍ من زوجتي وأبنائي الثلاث الباقين لي على وجه الأرض، فبدأت بابنتي فريال “درة أبنائي وبِكري” فوجدت حالتها مستقرة، وجريت لغرفة مسرّة فوجدتها في حالة مستقره وما آلمني إلا أنها ذهبت للمستشفى وهي صائمة ورفضت أن تفطر بالرغم من إصراري على أن تفطر وهي طفلة صغيرة لم يكتب عليها الصيام بعد، وما أن وصلنا إلى المستشفى إلا وشفائفها مشقّقة من الجفاف وترفض أن تشرب وإن كانت منذ وصولها تأخذ السوائل والمحاليل بالوريد، وجلست بجانبها وهي واعية والحمد لله وتتحدث إلي وإلى عمتها وأمضينا تقريباً ست ساعات على هذا الحال وقلنا الحمد لله بدأت الأمور تستقر وتهدأ، وإن كان هناك شيء في نفسي يجعلني غير مستقر وهو علمي بالإرتباط غير الطبيعي بين كلٍ من مسرّة وميسرة، وهي تتلقى الأكسجين والسوائل بالوريد وموصلة بأجهزة القلب والتنفس الصناعي ورسم تخطيط القلب وغيره من مستلزمات الرعاية المركزة، علمت بعد ذلك أن المستشفى قامت بالإتصال بمركز سموم جدة وبإرسال عينات لمعرفة نوع التسمم، وبحكم إتصال المستشفى المباشر بأمريكا فقد تم كذلك الإتصال ومناقشة الحالات مع مركز السموم في ولاية “كاليفورنيا” بأمريكا أجراها رئيس الأطباء في المستشفى، وقدم شرحاً إكلينيكياً متكاملاً، وبدأ الشك في أن هذه ليست حالة تسمم غذائي عادي، وقد يكون هناك سم قاتل فيه مادة الألمنيوم، وبالتحديد مادة فوسفيد الألمنيوم (Aluminum Phosphide)، وقد علمت مؤخراً أن ليس هناك وللأسف الشديد أي علاج لمن يستنشق الغاز السام الصادر منها، وبعد استجواب ومراجعة تاريخ اليومين الماضيين بالتفصيل بدأت الشكوك تزداد وتتضافر المعلومات التي تشير بأن ما نتعامل معه هو تسمم ناتج من إستنشاق غاز الفوسفين (Phosphine) السام المنبعث من أقراص مبيد الآفات فوسفيد الألمنيوم، وأن أحد سكان الأدوار السفلية في العمارة التي نقطنها قام بوضعه بشقته بكميات كبيرة وأغلقها وسافر إلى بلاده، من الذي يبيع هذه المادة السامة؟!.. من الذي أرخصها واعتمدها كمبيد حشري للأماكن المأهولة؟!.. من الذي يراقب هذه المواد السامّة ويأذن باستيرادها؟!.. من الذي وفّرها له بهذه الكميات القاتلة؟!.. من الذي يشارك في قتل أبنائنا بجهله أو إهماله أو جشعة؟!..
بقيت بجوار ابنتي مسرّة أمسك بيدها حتى جاءت الساعة التاسعة والنصف مساءً، وكانت كل الأمور تسير بشكل جيد وبجانبها معي عمها وعمتها “أختي الصغيرة وهي طبيبة في الجراحة”، وتسأل مسرّة “كيف حالك يا مسرّة” وأنبوب التنفس في فمها فتشير بأنها جيدة، وفي لحظة أصبحت تتكلم بسرعة وتشير لنا حتى ظننا والأطباء أنها حالة عصبية وهي تحاول أن تتكلم وتشرح لنا أنها ترى شيئاً وتطالع للأعلى .. نفس النظرة التي نظر ميسرة بها إلى باب الطوارئ، ونظرت ولم أجد أحداً ثم غاب عني تكرر المشهد مرة أخرى مع إبنتي مسرّة .. أخذت أحدّثها .. أقول لها يابنتي “مين فوق؟ مين قاعد يكلمك؟” وهي تريد أن تشرح، ولكنني لا أفهم لوجود أنبوب التنفس في فمها، وطلبت منها أن تمسك بيدي ففعلت ودخل مجموعة أطباء آخرين، وعلمت آنذاك أنهم أصبحوا قلقين بأنهم يتعاملون الآن مع هذه المادة السامة القاتلة والغاز القاتل والتي وللأسف ليس لها علاج في حالة إستنشاق كمية كبيرة منها. ودخل رئيس قسم التخدير وقال لي أننا نتعامل مع دورة ولكننا لسنا متأكدين منها بعد، ولم أرد أن أشركهم مخاوفي ولم يريدوا بعد أن يشاركوني في التفاصيل المشئومة، وكانوا متفائلين أنها ستعيش بالرغم من ذلك وسألنا مسرّة “كيف حالك يا مسرّة” فهزت رأسها وهي واعية فاسترخينا .. وفجأة سمعت نفس الجرس المشئوم .. لقد توقف القلب، لقد كانت تتحرك قبل دقائق تجيبني وتستجيب لي وتتكرر نفس الدورة مثل ميسرة وأصبحت أُشِير لهم على ثوبي وفيه دم إبني ميسرة وأقول لهم “ما نشف دم ميسرة .. بس خلوه ينشف“.
وانتهى كل شيء .. غابت مسرّة كما غاب ميسرة في لحظات، ترى ما هذا الذي رآه ميسرة ورأته مسرّة لحظات قبل وداعهم هذه الدنيا؟! .. ليتني أسمع من صغيرتي ما هذا الذي رأت وليتني أسمع من صغيري ما هذا الذي رآه؟!.. يقولون لي إصبر .. وإني والله سأصبر، ولكن كيف أوزع صبري؟! .. أأوزعه على كلماتهم التي ما زالت ترن في أذني؟! أو على ذكرى ضحكاتهم ولعبهم بين يدي؟! أو على أحلامهم؟! .. أو أصبر على رؤية أمهما وهي تستقبل الخبر ونعيش ما بقي من عمرنا نداوي هذا الجرح العميق؟! .. أو أصبر وأنا أرى درّة قلبي وبكري فريال وهي تخوض الحياة وقد سُلبت أختها الوحيدة وأخاها؟! .. كيف ستعيش وتتعامل مع هذه المأساة؟! .. أمسك بجدار غرفة العناية المركزة أنظر إلى إبنتي مسرّة وقد أحاطها الأطباء من كل مكان لا لشيء إلا لحرقتهم وألمهم أن يتركوها، كالذي علم بعقله أن كل شيء إنتهى ولكن قلبه لا يطيق أن يذعن ويقبل .. وبقينا ننظر لها وقد انتقلت لربها، وحولها سبع أطباء يذرفون الدمع حزناً عليها.
وخرجت من هناك ولا أدري أخروجي من هذه الدنيا سيكون أصعب أو خروجي من تلك الغرفة وقد ودعت فيها ميسرة ومسرّة في بضع ساعات .. رحلة قصيرة تلك التي قضيتها معكما يا ميسرة ويا مسرّة، ثم أسرعت لابنتي فريال وجلست بجانبها وزوجتي وابني الرضيع بلال وهم مازالوا في غرف العناية المركزة، وأصبحت أتنقل بينهم لا أدري كم سيبقى لي منهم بعد نهاية هذا اليوم الذي بدأ بمكالمة هاتفية من مسرّة وأنا في الحرم بين صلاة التراويح والقيام لتبشيري بانتهاء جزء من القرآن وسورة فوقها، وتذكر كلمة “التاج” وكلام آخر كثير، فقدت في هذا اليوم إثنين من أبنائي ومازال هناك في اليوم ساعات .. يارب رحمتك ولطفك بما تبقى لي من أهلى. وانتهى اليوم وأبقى الله لي زوجتي وابني الرضيع بلال ودرة أبنائي فريال .. فالحمد لله الذي أعطى وأخذ .. وكل شيء عنده بمقدار، وتجلدت وصَابَرتْ معي أم مسرّة وميسرة، ساعات أليمة تلك التي قضيتها مع زوجتي في العناية المركزة وهي على سريرها ورأسي على جانب سريرها لا أكاد أرفعه من ثقل ما أحمل.. لم أكن أتصور أنني سأدفن ابني وابنتي الطفلين بل أن أدفنهما في يوم واحد.. وكم مرت عليّ اللحظات مر الشّفرات تقطع لحمي وتفري عظمي وأنا واقفٌ بين القبرين والكل من حولي مجتهد أن يواريهم الثرى وأنا حائر بينهما .. أأقف على هذا أم أنظر ذاك؟! أأدعو هنا أم أبكي هناك؟! .. وأنا أُقْتَل ألف مرة بكل ذكرى أحيتها مسرّة وأحياها ميسرة فيّ، كيف أوزع صبري؟! .. مرت أيام عصيبة وانتقلنا للغرف العادية .. وجاء العيد ونحن ما زلنا في المستشفى .. وبدأ التكبير بعد صلاة الفجر وأنا لا أريده أن يقف، ولا أريد العيد أن يبدأ .. وكيف لعيدنا أن يبدأ وقد إنتهى عيدي بدفني لأبنائي الإثنين ميسرة ومسرّة، وعلمت بعد ذلك أن سكّاناً آخرين أصيبوا كذلك بأعراض إستنشاق هذا الغاز السام، وعلمت بعد ذلك أن هذا المبيد الحشري -مبيد فوسفيد الألمنيوم- هو مبيد حشري فعّال في تبخير صوامع الغلال والمخازن لقتل سوس الحبوب والدقيق وكذلك لقتل الفئران والجرذان بل هو غاز قابل للإشتعال، وعلمت كذلك أن وزارة الزراعة هي التي تمنح تراخيص إستيراد وبيع المبيدات الزراعية ومنها مبيد فوسفيد الألمنيوم، وهي المسؤولة عن المراقبة للتأكد من إلتزام كل منشأة حصلت على ترخيص إستيراد هذه المادة بأنها ملتزمة بالقيود التي وضعتها وزراة الزراعة والموقّع عليها، وأن لا تُصرف هذه المواد الزراعية السامة إلا للجهات المرخّص ببيعها وإستخدامها، وأن وزارة الزراعة تطلب هذه الضمانات الموقع عليها خطياً من صاحب المنشأة التي طلبت إذن الإستيراد وذلك قبل إفساح الشحنة من الميناء مع تضمين شهادة(SASO) وهو الإختصار المعروف لهيئة المواصفات والمقاييس، وعلمت كذلك وللأسف أن هناك أكثر من عشرين حالة وفاة على مدى عامين من جراء غياب الرقابة لبيع هذا المبيد الحشري الذي لا يدخل البلاد إلا بإذن وتصريح من وزارة الزراعة، وأنه لذلك لا تستخدمه أمانة محافظة مدينة جدة ولا تتعامل معه من قريب أو بعيد ولا تستخدمه في برامجها لمكافحة آفات المدينة لأنها تعلم بمدى خطورته، وتستخدم فقط المبيدات التي أقرت من قبل الجهات المتخصصة وتقع فقط ضمن ما توصي به منظمة الصحة العالمية. وعلمت كذلك أن الأمانة بدورها في تأمين الأمن والسلامة لكافة سكان مدينة جدة قد عقدت ندوتين توعويتين بمشاركة وزارة الصحة حول سبل السلامة في إستخدام المبيدات، وكانت الندوتين في شهري 2 و6 من هذا العام، وقد خصصت الندوة الثانية لمراقبي ومراقبات الأسواق لدينا للتعرف على هذه المادة السامة وعبواتها ومصادرتها من محلات النظافة والعطارة والبقالات الشعبية غير المرخص لها بالإتجار فيها، بل وقد قامت وزارة الصحة بالتنبيه مراراً ومراراً من خطورة هذا المبيد وضرورة إزالته من الأسواق، وقد أرسل بالفعل خطاب رسمي من مدير الشؤون الصحية بمحافظة جدة بتاريخ 18/03/1429هـ للجهات المعنيّة لتحذيرها من إنتشار هذا المبيد في الأسواق وضرورة التعامل الفوري مع هذه المآساة والكارثة التي تحصد أطفال هذه المجتمع .. أين الرقابة إذن؟! .. مَن وضع هذا السم القاتل بهذه الكمية بين يدي من استخدمها؟! .. أين رقابة وزارة الزراعة من هذه المنتجات؟! .. وإنني أسأل اليوم إن لم تكن وزارة الزراعة هي المسؤولة فمن المسؤول؟! .. من الذي قتل طفليّ مسرّة وميسرة؟! .. من نزعهما من بين يدي وغيّبهما عن حضني؟! .. هل قتلهما حقاً هذا الجار .. أم الجهل .. أم الجشع .. أم غياب الرقابة .. أم هم جميعاً؟! .. هل هو جهل مجتمع وتقصير المسؤولين في توعيتهم؟! .. أو جشع التجار ذوي الضمائر الفاسدة وسعيهم للربح السريع؟! .. أو غياب رقابة وزارة الزراعة المسؤولة والمصرّحة لدخول هذا المبيد تحت مسئوليتها والتي أخذت التعهدات اللازمة من المنشآت الزراعية!! .. أو أن المجتمع بأسره قد قتل ميسرة ومسرّة بالتقصير في محاربة الجهل ومعاقبة الجشع وغياب الرقابة؟! .. كيف يغلق ملف مثل هذا بهذه البساطة وهذه السهولة وتختذل القضية فقط في تجريم صاحب الشقة السفلية الذي قام باستخدام المبيد القاتل بلا رحمة في شقته؟ إن فعله القاتل ما كان ليحصد ثمرة فؤادي لو لم يعنه عليه من وفّرها له في السوق أو البقالة بل حتى محلات العطارة. لو حدث هذا في الغرب ألن تكون هناك محاسبة شديدة وفتح لملف التحقيق دون أن يكون هناك حصانة؟ فهذه حياة بشر .. وأي بشر؟! .. فهم أثمن ما أملك وليس هناك ثمن على وجه الأرض يمكن أن يقدم كتعويض عن فقد روح واحدة .. “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”. أما الصحافة فحدّث ولا حرج، فبعض الصحفيين كتبوا وليتهم ماكتبوا .. تزييف وتشويه للحقائق بل وإيذاء وتجريح لنا)). إنتهت القصة على لسان والد ميسرة ومسرّة.
إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة .. لا تعزّوهم بكلمات جوفاء وإن خرجت من قلوب صادقة .. يكفيهما عزاء بعض الصحف والصحفيين التي اتهمتهما بالإهمال والتقصير والجهل، إتهمت الأب وهو الرجل المتعلم الواعي المثقّف الذي يحمل شهادة دكتوراة في الهندسة والحافظ لكتاب الله، والذي جمع بين علمي الدنيا والآخرة وأشهد الله أننا ما رأيناه إلا مدرسة في العِبَر ونموذجاً راقياً في التربية والتعامل مع أشد إبتلاء ومحنة، واتهمت الأم وهي السيدة الكريمة التي تحملت أعباء بيتها وتربية أبنائها وكرّست حياتها من أجلهم وأخرجت أبناءً وبناتٍ حفظةً لكتاب الله، ليكن عزاؤكم لهما أن تجعلوا من حياة ووفاة مسرّة وميسرة خيراً عظيماً لهذا الجيل، وعطاءً ومنفعةً لهذا المجتمع، فهذا ما كان أبو مسرّة وميسرة وأمهما يعملان من أجله، وقصة تربيتهما لمسرّة وميسرة لهيَ أكبر دليل، ولن يكون ذلك أبداً بمعالجة سطحية للموضوع بل بالتركيز على ما هو أحق وأولى أن يعالج.
إلى كل من أراد أن يعزي والد ووالدة مسرّة وميسرة .. أقول لهم عزوهما بأن تُحيوا لهما سيرة مسرّة وميسرة..
ليصبح ميسرة رمزاً لتيسير أمور كثيرة عُسّرت على الناس ولم تزل إلى اليوم معطّلة..
ولتصبح مسرّة رمز لإدخال السرور في نفوس اغتالتها الهموم فأصبحت بها مكدّرة..
ولنعيد للإنسان في مجتمعنا قيمته المهدرة..
ونرفع بهما شعار “البشر قبل الحجر“..
ولنُفعّل إحياءً لذكراهما قول الله تعالى “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً“..
د. وليد أحمد فتيحي
طبيب استشاري، ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي