قصر الألماس أم بيت الطين ؟

يوم أن كانت رائحة الطين العبقة تحتضن الذكريات الجميلة

لمساكن ضيقة جداً لا مكان فيها للخصوصية  ولا للرفاهية .

كانت القلوب صافية نقيةً تتحمل من شظف العيش الكثير

وتغدق الطيبة للقريب والبعيد بلا استثناء .

كانت القرية بأكملها أسرةً مترابطة ، والأسرة المُكونة من خمسة   أو ستة عوائل إخواناً متكاتفين لا يفرقهم شيء ،

كسب الرزق قد يُبعدُهم عن ذويهم ،  لكن لا يؤخرهم عن الواجب أو فعل المعروف .

قلة ذات اليد والعطش والجوع لم يشتت شملهم أبداً أو يبعثرهم

كما الرمال في الصحراء أبداً بل جعل أياديهم متكاتفة فظهر أحدهم

سندٌ لأخيه ومايشغل فكر أحدهم لاينام لأجله محبيه.

الأب رب الأسرة وقبطان السفينة ،  له هيبته واحترامه ، يسعد أبناءه ببره  ،   عطوفاً رحيماً بهم ، يتحمل الصعاب لأجلهم ،

ينتظر اللحظة التي يكبر فيها الأولاد  فيصبحوا رجالاً يعتمد عليهم ، و يربيهم على الدين والأخلاق ،

والصلة والآداب  ،هم كظله وتحت نظره .

أما الأم  فالصدر الحنون التي يلجأ إليها الكبير قبل الصغير ، توجه

وتُعلم وتكدح في عملها مع زوجها في الحقول ، ومع ذلك لا تكل ولاتمل ،  تصلح الطعام ، وتغسل الثياب ،

وتكنس وتنظف البيت ، هذه مسؤليتها تؤديها على أكمل وجه مبتغية الأجر من الله .

لاتخرج إلا لحاجة ، ولا تثقل كاهل زوجها بالطلبات .

راحتها حين ترى زوجها و أولادها يرفلون بالصحة والعافية .

شاكرة ذاكرة لربها ، ومنها تستق البنيات الكلام ، وطيب الخصال ,والعفاف والستر والحياء .

لا يكاد يُسمع صوتهن لدى الرجال الأجانب ، وإن خرجن شددن عليهن الثياب حتى لا يتكشفن .

بارات بوالدتهن ، يفضفضن لها عن كل شيء حتى لايبقى في النفوس إلا الصفاء والنقاء .

في البيت الواحد قد يجتمع جد وجدة ، وأعمام وعمات ، ولاضير في ذلك  .

هم كخلية نحل في الجد والعمل ونبذ الكسل .

القلوب في ذاك الزمان لم تعتريها الأمراض بعد ، ولم يتسلط عليها

الشيطان ، القلوب لم يُنكت فيها نُكتاً سوداء ، بل كانت بصفاء النية

كقطعة كُرسف بيضاء .


بيوت الطين


والرحى


والزير


وخوصُ النخلِ يُصنعُ منها الحصِير .


وثوبٌ مرقعٌ يُلبس في الصيفِ وفي الربيع


هذه حالتهم بُسطاء يكدحون الليل والنهار لأجل لقمة العيش .

متوكلين على الله ، متقربين إليه بالطاعات ، كلما جن الظلام

فزعوا بين يديه ، سائلينه أن يغفر لهم خطاياهم ، ويصلح ذرياتهم .

آهةٌ حرى خرجت من جوفي ، وأنا أتأمل الجدران المتشققة ، والسقف

المتهالك ، وبقايا نافذةٍ لم يبق منها سوى سياجها الحديدي المتين وكأنه

يتحدى الزمن .

ماذا لو كنا نسكُنُ هذا البيت سؤالٌ قفز إلى ذهني مباشرة وبدون استئذان .

هل سيكفينا المكان  ؟

بالطبع لا .

لكني لازلت أذكر كلام جدتي فهي تقول الوسع في القلوب لا في الدور صدقت والله .

وإلا كيف تحمل هذا البيت جدي وجدتي ، وخالاتي وأخوالي .

هاهو صوت السيارة لابد أنه أخي ، يبدوا منزعجاً فقد تأخرتُ عليه

بضع ثوان ، وهو جالسٌ في سيارته المكيفة التي اشتراها مؤخراً .

تمتمت في نفسي : إذن كيف سيكون حالُك لو ركبت الإبل ، وأمضيت شهراً تقطع المفاوز والقفارفي لهيب الهواجر .

انتبه إلي وعلامات التعجب تلوح في ذهنه .

عُدنا والعودُ أحمد .

الواجهة الرخامية التي تزين القصر وتنعكس عليها الشمس تظهره كقطعة ألماس نادرة الوجود .

كل من يمر من هنا يبتسم ظناً منه أن من بداخل هذا المنزل سعداء

لفرط غناهم .

نزلت من السيارة بتأفف والخادمة عبثاً تحاول أخذ عباءتي مع موجز النشرة المعتادة وبلكنتها :

ما ما في برا

بابا في شوغل

أ……

كفاك هيا اذهبي

جلست على الأريكة والنوافذ الزجاجية  التي تكشف نصف البيت  تشد بصري إلى الحديقة .

بينما يبدو صمتي ذو صدى لإتساع المكان وخلوه إلا من بعض التحف التي انتقيت بعناية .

لقد تساويت مع هذه الجمادات فنحن نجلس في مكان واحد ولا أكاد أنبس وإياها ولا ببنت شفة .

نحن في هذا القصر لا نجتمع عفواً لا نتقابل إلا بمحض الصدف .

أبي مشغولٌ دائماً ، وأمي لا تكاد تجلس في البيت ، وإخوتي مع أصدقائهم ولا يرجعون قبل منتصف الليل .

وأخواتي ……!

طرقٌ على الباب  ….

– من ؟

آه إنها الخادمة تسألني عن ما إذا كنت أريد طعام العشاء .

ليس لي رغبةٌ في شيء .

هنا كلُ شيء يُدار بالريمُوت كنترول حتى ننعم بالرخاء .

سبع خادمات إضافة إلى طباخة وسائقين .

صديقاتي يحسدنني على النعمة ودائماً ما يتمنين أن يعشن

ملكات على حد قولهن .

لكن وبكل صراحة أنا من يحسدهن على حياتهن يكفي أنهم

أسر مترابطة صحيح أن أغلبهن يعانين الفاقة لكنهن بالتأكيد

أسعد مني .

إنهن يجدن من يتكلمن معه ، ويمنحهن الحب والحنان

يجدن من يوجههن إذا أخطأت إحداهن .

رأسي يكاد ينفجر قصر الألماس أم بيت الطين

لا مجال للمقارنة

أردت عبثاً النوم بعد أن أطفأت النور إلا من شمعة عطرية تحرس معي

طوال الليل .

أمسكت بقلمي ومحيرتي وكتبت :


أبي


أمي


إخوتي


وأخواتي


أنتم مدعون غدا ًلتناول وجبة الغداء في قصرنا الفخم


وتحديداً في حجرة الطعام


فمنذ العيد الماضي لم نجتمع


التوقيع   :  ابنتكم المحرومة  من حنانكم  .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *