من حديث النفس

كتاب : ” من حديث النفس ” كتاب رائع للشيخ : علي الطنطاوي -رحمه الله –
جمع فيه  35 مقالاً بعضها أتى عليها في الذكريات ، وبعضها أتى عليها بالتفصيل هنا
يقع في 312 صفحة ، وهو من إصدارات دار المنارة

هنا بعض المقتطفات من ” ثقافة ” :

 

من دموع القلب


لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها, و يرغبني فيها…وماذا في الحياة؟ كل لذة فيها مغشاة بألم, فيها الربيع الجميل, , و لكن فيه بذور الصيف المحرق, و الشتاء القاسي. و فيها الحب, و لكن لذة الوصال مشوبة بمخافة الهجر. و فيها الصحة و الشباب, و لكنهما يحملان الهرم و المرض. فيها الغنى, و لكني ما عرفته و ما أحسبني سأعرفه أبدا.
لقد كرهت الحياة, و زادها كراهة لي هؤلاء الناس, فلم يفهمني أحد و لم أفهم أحدا. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلا بأحزاني قالوا متكبر, و إن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا شرس, و إن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا فاسق, و إن قلت كلمة الدين قالوا جامد, و إن نطقت بمنطق العقل قالوا زنديق, فما العمل؟ إليك يا رب المشتكى…..

 

على عتبة الأربعين

لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلما و كنت أتوهَّم حياة المعلم فأجدها جنة أنزلت الأرض فيها ما تشتهي الأنفس…..أليس المعلم يأمر فيطاع أمره…..؟ فلما صرت معلما, لم أجد من تلك الجنة إلا أرضا موحلة ما فيها إلا الأشواك…
إن متع الدنيا أوهام , من لم ينلها تشوق إليها و حسد عليها, و من نالها ملها و تمنى غيرها: المتزوج يتمنى العزوبية, و العزب يشتهي الزواج, و المقيم يرجو السفر, و المسافر يطلب المعاد و و و ….و نحن كلنا أطفال …تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها و يهش لها , ثم يلقيها و يطلب غيرها, و لو كان دونها. ثم إن الآمال لا تنتهي, فمن أعطي المليون, ابتغى المليونين, و من رفع في الوظيفة درجة طلب درجتين, فلا يزال في شقائين, شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به , و بالآتي الذي لا يصل إليه…
أفلهذا وجدت و سعيت أربعين سنة؟ أسعيتُ لأدرك السراب؟
و تتالت علي الفِكَر, و عاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله ) إلى طلب الموت من سنين, و ما أشكو المرض فصحتي جيدة و لا أشكو الفقر فما أجد من المال يكفيني, و إنما أشكو فراغا في النفس لا أعرف مأتاه, و قوى فيَّ لا أجد لها مصرفا, و حنينا إلى شيء غامض لا أدري ما هو على التحقيق.

 

على أبواب الثلاثين

نظرت اليوم في سجل ميلادي فوجدتني على أبواب الثلاثين, فتركت عملي و جلست أفكر, ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي! لم يبق إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق…..لم أفد إلا اسما مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح و الذم و التمجيد و الشتم و لكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء , إن اسمي ليس مني…إنه مخلوق من حروف و لكني إنسان من لحم و دم, فهل تشبعني الشهرة او يكسوني الثناء؟ و لم املك إلا قلبا أحب كثيرا, و أخلص طويلا, و لكنه سقط كليما على عتبات الحب و الإخلاص….
فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة, يطفو فيها الفارغ و يرتفع, و ينزل فيها الممتليء و يغوص….
كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة, فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة و لا بحثا, و لماذا أقرأ ؟ و لماذا أتعلم؟ و لماذا أكون فاضلا؟ و الحياة حرب على أهل العلم و الفضل, و الناس كالحياة لأنهم أبناؤها و تلاميذها.
ألا يحيا الكاذب المنافق سعيدا موقرا, و يموت الصادق الشريف فقيرا محتقرا؟ ألا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب و أسماها و يبقى الصادق الشريف في الحضيض؟…
أليست أسواق الرذيلة عامرة دائمة و أسواق الفضيلة دائرة بائرة؟
ألا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟
فلماذا أقرأ و لماذا أتعلم؟ و لماذا أكون فاضلا؟
***
و قمت و قد صفيت حسابي مع الحياة , فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري و ربيع حياتي و لم أربح شيئ


 

ردّين على “من حديث النفس”

  1. أسرني ما قرأت من مقتطفات ، فليس لي الآن إلى الذهاب إلى المكتبة لإقتناءه ، فالشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى جعل الكثير من وقته لأجل العلم فلذلك أجد أنه من واجب كل منا أن تكون مؤلفاته وكتبه بين جنبات مكتباتنا ولكنني للاسف أحد الذين لا يملكون ذلك .. شكراً لك أ/أمل على هذا المقتطف الجميل 🙂

  2. حياك الله أ. سعود
    للطنطاوي – رحمه الله – كتب كثيرة
    أنصحك ” بذكريات علي الطنطاوي” وهي من 8 مجلدات لازلت أقرأ فيها
    جميلة جداً
    لأن بعض ما جاء في هذا الكتاب أو معظمه أتى ذكره هناك

    تقديري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *